استديو ملوى

الأربعاء، أبريل 06، 2011


http://i3.makcdn.com/wp-content/blogs.dir/35624/files//2009/11/d981d983d8b1-d8a5d8b1d987d8a7d8a8d98a.jpg


( وَلَوْ شَاءَ الْلَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنَّ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِيَ مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ ( 93 ) وَلَا تَتَّخِذُوَا أَيْمَانَكُمْ دَخَلْا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوْتِهَا وَتَذُوْقُوا الْسُّوْءَ بِمَا صَدَدْتُّمْ عَنْ سَبِيِلِ الْلَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ ( 94 ) وَلَا تَّشْتَرُوُا بِعَهْدِ الْلَّهِ ثَمَنا قَلِيْلا إِنَّمَا عِنْدَ الْلَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنَّ كُنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ ( 95 ) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الْلَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِيْنَ صَبَرُوٓا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوْا يَعْمَلُوْنَ)
( 96 )


الناس طبائعهم مختلفة، ولذلك فاستجاباتهم للمثيرات التي يتعرضون لها مختلفة، ورؤاهم أيضا مختلفة. هناك قدر يتفق عليه الناس في الأشياء؛ لكن تبقى الحقيقة الثابتة، وهي أن اتفاق الناس على شيء واحد، أو أمر واحد عملية مستحيلة تقريبا تصديقا لقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 
* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (الآيتان 118، 119 من سورة هود عليه السلام)
فاختلاف الناس قضايا فطرية، قد فطر الله الناس عليها، ولو أرد الله عز وجل أن يجعل الناس جميعا بفكر واحد، وبرأي واحد، وبأسلوب واحد، وبشكل واحد، وعلى دين واحد لفعل ذلك سبحانه وتعالى، ولكنه جلت قدرته قد أراد الناس مختلفين في كل شيء تقريبا، وقضى عليهم بهذا الاختلاف؛ فلا تكاد تجد من يتفق مع الآخرين في كل شيء، حتى قضية الإيمان بالله لا تجد الناس يجتمعون عليها، فهناك المسلم، والنصراني، واليهودي، والبوذي، والهندوسي، والملحد وغير ذلك من أنواع الديانات المختلفة. وفي الدين الواحد تجد شعبا متنوعة، وفي الشعبة الواحدة تختلف نسبة الإيمان ودرجته، وتختلف نسبة فهم الدين والتعامل به، فقضية الخلاف قضية لا يمكن إنهاؤها.

ولنخرج من دائرة الخلق والاختلاف الفطري إلى دائرة الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية؛ فنجد أن أفراد الحزب الواحد يتفقون على تحقيق هدف معين؛ لكنهم لا يتفقون أبدا على الطريقة، قد يحدث اتفاق نسبي على قدر مشترك من المصالح يتعارفون عليها، ويسعون لتحقيقها، لكنهم يظلون مختلفين حول طريقة الوصول إلى هذه الأهداف.

ظاهرة الخلاف في الآراء ظاهرة فطرية- كما ذكرنا- وهي ظاهرة صحية في المجتمعات الإنسانية؛ إذ إنها تقدم الفكرة والفكرة المعارضة أو المخالفة في بعض وجهات النظر، وبهذا تتسع الرؤية، وتنضج الفكرة الأساسية، وتتبلور القضايا، ويصل الجميع في النهاية إلى أفضل الصور والأشكال المعبرة عن الفكرة الواحدة، وفي ذلك إثراء للعمل الإنساني اجتماعيا كان أم سياسيا.

خلافنا في الرأي إذن نعمة نحمد الله عليها كثيرا، لكن هذه النعمة تتحول إلى نقمة إذا ما حاول بعضنا أن يَفْرض رأيه على الآخرين، أو يحملهم عليه حملا بطريق ما من طرق الفرض والإكراه، فمادامت آراؤنا مختلفة حول فكرة واحدة؛ فنحن نتناقش فيها، ويدلي كل منا برأيه وحجته؛ فنصل في نهاية المناقشة والحوار إلى الأفضل والأنسب.

فإذا ما حاول بعضنا أن يفرض رأيه على الآخرين تحولت ظاهرة الخلاف الفطرية التي فطر الله الناس عليها من كونها نعمة إلى الضد تماما، فتصير نقمة؛ فبهذا الفرض نخسر الحوار الذي يفتح الأفكار، ونخسر آراء الكثيرين ممن يختلفون معنا في وجهات النظر، ونظل لا نرى غير أنفسنا، وبهذا نصبح شكلا واحدا، نصبح فكرا واحدا، نصبح أسلوبا واحدا، نصبح نمطا واحدا. ولا نلبث بعد قليل حتى نصدق أنفسنا بأننا وحدنا نملك الحق والحقيقة، وأن غيرنا لا يملكها. وتلك أول مسالك الديكتاتورية.

لقد ولدنا ونشأنا وقد ترسخت فينا ثقافة الديكتاتورية، وربما لم تكن ثقافة مقصودة؛ لكنها ثبتت في داخل كل منا، حتى صارت يقينا وعقيدة من الصعب أن نتزحزح عنها قيد أنملة.

نشأنا ونحن لا نرى قدرة تقترب من قدرة رئيسنا؛ فهو صاحب القدرة على كل شيء بعد الله عز وجل، ولقد كان الأطفال في القرى ينظرون إلى المصرف الذي يشق الحقول ويعمل على تصفية المياه الزائدة فيها، واتساعه في ذاك الوقت فوق عشرين مترا، فيقول أحدهم للآخر: هل يستطيع أبوك أن يقفز من شاطئ المصرف إلى الشاطئ الآخر؟ فيجيب الطفل ببراءة: كلا. فيقول الآخر في براءة أكبر: جمال عبد الناصر يستطيع أن يقفز من هذا الشاطئ إلى الشاطئ الآخر.

كانت هذه عقيدة ويقينا يصدقه الجميع، ومن لم يصدقه كان يظهر تصديقه، أما بالنسبة لنا- نحن الأطفال في ذاك الوقت- فكانت عقيدة لا تقبل النقاش والجدل.

ومن ثم بدأت فكرة الديكتاتورية تتشكل في أعماقنا وكياننا، وتنمو يوما بعد يوم.

دخلنا المدارس، وبدأنا ندرس، والفكرة تتزايد وتتزايد، وكلما تقدمنا في الدراسة تقدمت الفكرة معنا، فالأستاذ يعرف ما لا يعرفه غيره، والأستاذ هو الذي قال، وكبرنا، وكبرت معنا الفكرة، لكنها انتقلت من الأستاذ إلى الكتاب، فإذا ما تناقشنا وكان خصمنا عنيدا قويا في اللجاج والخصومة لجأنا إلى الكتاب الذي فيه ما يسكت الخصم، ويجعله يخضع ويستسلم لرأينا.

كبرنا أكثر وأكثر، وصرنا ننظر إلى الكتب على أنها أدوات وصور تمثل أصحابها وتحمل آراءهم، ومن ثم فقد فقدت قداستها عندنا، فنستطيع أن نقول كما يقولون، وأن نناقشهم فيما يقولون، وبدأت سحابة الديكتاتورية تنقشع من أعيننا شيئا فشيئا.

لكن المشكلة التي لم نستطع التخلص منها هو أنه يجب أن يتبعنا الآخرون في آرائنا، وكأننا وحدنا الذين نملك الحقيقة وهم لا يملكونها، في حين أننا نظن أننا نعرف الحقيقة، وهم أيضا يظنون أنهم يعرفون الحقيقة، فكل منا يظن أنه يعرف، ومن الأولى أن نتحاور ونصل إلى أفضل ما نطلبه. فالقاعدة العامة التي أرى أن تضبط حواراتنا هي: ليس كل ما أقوله صوابا، وليس كل ما يقوله خصومي ومعارضي خطأ. إذا آمنا بهذه القاعدة وكانت أساس حواراتنا؛ فلن نتصارع أو نتسابَّ، حقا سنختلف، ولكننا سنظل يحترم كل منا الآخر. وبهذا نستطيع أن نتخلص من الديكتاتورية الفكرية.

د. حسن محمد عبد المقصود

كلية التربية- جامعة عين شمس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكرا لكم